غزّية تُرمّم النقود.. وترمّم معها ما تبقّى من حياة تحت الركام

غزّية تُرمّم النقود.. وترمّم معها ما تبقّى من حياة تحت الركام
عودة الحياة إلى غزة رغم الحصار والدمار

وسط سوق النصيرات المكتظ في قلب قطاع غزّة، حيث يختلط صوت الباعة برائحة الغبار ودخان المواقد، تجلس منال السعدني خلف طاولة صغيرة تحملها معها كل صباح. ليست طاولة اعتيادية، بل ورشة مصغّرة لامرأة تصرّ على مواجهة انهيار الحياة بيدين ترتجفان من التعب.. لا من الخوف.

هذه الأم القادمة من مخيّم البريج تحمل معها حقائب صغيرة، بداخلها شفرات حادة، غِراء، قطعة زجاج، وطباشير ملوّنة.. أدوات تكاد لا تُرى، لكن قيمتها في غزة اليوم تعادل قيمة الوظيفة والراتب والكسرة التي تقيم الأود، بحسب ما ذكرت وكالة "فرانس برس"، اليوم السبت.

منال ليست صاحبة محل ولا مشروع تجاري كبير. هي امرأة وجدت نفسها -مثل كثيرين- وحيدة في مواجهة اقتصاد مُحاصر، ونقود مُتهالكة، وحياة لا ترحم الضعفاء. 

تقول بصوت تُغالب فيه الإنهاك بين زبون وآخر: "قررت أشتغل في تصليح الأوراق النقدية.. الناس شجعوني. كانوا يجيبوا ورق الـ20 شيكل ويقولوا: صلّحيها بشيكل أو شيكلين".

في بقعة صغيرة لا يتجاوز ظلّ مظلتها الخفيفة، تضع منال الورقة الممزّقة فوق لوحة الزجاج.. تُمرر الشفرة بدقة جراح، تُدخل الغراء في الشقوق الدقيقة، ثم تُنعّم الورقة بأصابعها، الأصابع نفسها التي تُطعم بناتها وتُمسك يد صغيرة في طريق المدرسة.

ترفع الورقة نحو الضوء.. تُقلبها.. تُدقق في جروحها.. كأنها تتفحّص قلبًا يتنفس بصعوبة.

اقتصاد بلا نبض

منذ فرض الحصار المشدد بعد حرب أكتوبر 2023، لم تدخل أي أوراق نقدية جديدة إلى القطاع.. الأموال القديمة تدور في السوق مرارًا حتى تتآكل حوافها وتتناثر أجزاؤها كحياة الغزيين أنفسهم.

أصحاب المتاجر باتوا يرفضون الورق الممزق.. الشراء يحتاج إلى ورقة سليمة.. والورقة السليمة تحتاج إلى يد منال، حتى أصبحت طاولتها أشبه بـ“مركز إنعاش” للنقود المحتضرة.

تقول نبيلة جنّار، إحدى الزبونات، وهي تدفع بصمت ورقتين من فئة الـ20 شيكل: "نروح عند التجار يرفضوها.. يقولوا لنا مش صالحة.. بنصلّحها عند منال.. شيكلين مقابل ورقة الـ20، وثلاثة شيكلات للـ50".

ورقة حمراء.. خضراء.. برتقالية.. زرقاء.. ألوان الطبشور التي تستخدمها منال لإعادة بعض الحياة، أشبه بمحاولة بائسة لإعادة الألوان إلى حياة باتت رمادية بالكامل.

تعبت.. بس مين يسمع؟"

بين دفّة ورقة ممزّقة وأخرى، تُغالب منال دمعة حارقة.. تتنهد وتقول: "لأني امرأة.. كل الناس واقفين معايا.. بس والله تعبت.. ألا يحق لي أرتاح مع بناتي بدل هذا العذاب؟".

في غزّة، التعب ليس اختيارًا.. التعب قَدَر.. خاصة حين تكوني معيلة وحيدة في منطقة فقدت 70 عامًا من التنمية، كما تقول تقارير “الأونكتاد”.

سبعون عامًا ضاعت.. وامرأة واحدة تحاول أن تُرمّم عامًا واحدًا إضافيًا من الحياة.

الهدنة.. وأمل لا يكتمل

فيما ينتظر سكان القطاع تثبيت الهدنة، يظل المشهد في السوق نفسه.. أطفال يبحثون عن بسكويت، رجال يعدّون ما تبقى من نقود، نساء ينتظرن إصلاح ورقة قد تحدد إن كان الطعام سيدخل البيت أم لا.

تُمازح منال أحد الزبائن وهي تعيد له ورقتين ميؤوسًا منهما: "هاتين.. روح اشترِ بيهما بسكويت!".

ضحكة قصيرة تنفلت، لكنها سرعان ما تخبو، كأنها تُدرك أنها لا تقوى على الصمود طويلًا.

النقود رمز لحياة كاملة

في العالم الخارجي، تُرمّم الحكومات اقتصادًا كاملًا عبر خطط واستثمارات.. أما في غزة، فتُرمّم امرأة واحدة -منال- اقتصاد مدينة كاملة بشفرة صغيرة وعلبة غراء.

ورغم أن يدها تهتز من التعب، فإنها لا تتوقف.. فكل ورقة تُعيدها للحياة، تُعيد معها جزءًا صغيرًا من قدرة الناس على العيش يومًا إضافيًا.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية